عملية تركية وشيكة في سوريا- أهداف محدودة أم ضغوط متزايدة؟

في الأيام القليلة الماضية، تكررت تصريحات رسمية رفيعة المستوى من الجانب التركي، تنبئ باحتمال شن عملية عسكرية جديدة في الأراضي السورية الشمالية، تستهدف بشكل خاص "وحدات حماية الشعب" الكردية. وتؤكد أنقرة بشدة على ضرورة هذه العملية، ملوحة بها بين الفينة والأخرى.
العمليات العسكرية التركية السابقة
بعد فترة من التردد، امتنعت خلالها تركيا عن الانجرار إلى ما وصفه البعض بـ "المستنقع السوري" خوفًا من التورط والاستنزاف، أطلقت أنقرة أولى عملياتها العسكرية في سوريا تحت اسم "درع الفرات" في أغسطس/آب من العام 2016. وقد جاء ذلك بعد مرور شهر ونصف فقط على المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها البلاد. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن للعملية كان محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي وبقية التنظيمات المتطرفة، إلا أن الهدف الأساسي لهذه العملية، والعمليات التي تلتها، كان منع إقامة كيان سياسي مرتبط بحزب العمال الكردستاني. وقد جاء ذلك بعد أن شهدت عملية التسوية في تركيا انتكاسة كبيرة، واستأنف حزب العمال الكردستاني عملياته العسكرية بالتزامن مع إعلان الإدارات الذاتية في الشمال السوري عن 3 "كانتونات" بالقرب من الحدود التركية.
تتضمن الأهداف المرحلية لتركيا في سوريا إخراج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من منطقة تل رفعت تحديدًا، واستكمال الجهود الرامية إلى إبعاد عناصرها إلى عمق الأراضي السورية على طول الشريط الحدودي، وإضعاف نفوذها في مناطق شرق الفرات، بالإضافة إلى بذل جهود حثيثة في المجالات غير العسكرية، مثل المساعي المبذولة لإقناع الولايات المتحدة بالعدول عن دعمها لقوات سوريا الديمقراطية.
نجحت العملية الأولى في قطع التواصل الجغرافي بين الكانتونات الواقعة في الشرق والغرب. ثم جاءت العملية الثانية، "غصن الزيتون"، في يناير/كانون الثاني من العام 2018، لتقضي على وجود وحدات حماية الشعب في منطقة عفرين الواقعة في الجزء الغربي من سوريا.
وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019، أي قبل عامين بالتمام والكمال، نفذت تركيا عملية "نبع السلام" في المناطق الواقعة شرق نهر الفرات، بهدف إبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب مسافة 30 كيلومترًا عن الحدود التركية السورية، وإنشاء منطقة آمنة هناك. وقد انتهت هذه العملية بتوصل تركيا إلى تفاهمات مع كل من موسكو وواشنطن، تعهدتا بموجب بنودها بإبعاد مقاتلي الوحدات. أما العملية الأخيرة، "درع الربيع"، فقد انطلقت في مارس/آذار من العام 2020 في محافظة إدلب، وذلك بعد استهداف القوات التركية ومقتل العشرات من الجنود الأتراك على يد قوات النظام السوري، وفقًا للرواية الرسمية التركية.
أهداف لم تتحقق بالكامل
بفضل العمليات العسكرية الكبرى الأربع، والإجراءات والتحركات الأصغر حجمًا والأقل تأثيرًا، حققت أنقرة إنجازات ملموسة في مجال مكافحة الأذرع السورية لحزب العمال الكردستاني. ومن بين هذه الإنجازات: إنهاء وجودها في منطقة عفرين، ومنع وصولها إلى البحر الأبيض المتوسط، وإبعاد مقاتليها عن الحدود، وتوسيع مناطق سيطرة تركيا وفصائل المعارضة السورية المتحالفة معها. ومع ذلك، لم تتمكن أنقرة من تحقيق جميع أهدافها النهائية. فهي لم تتمكن من إنهاء وجود هذه التنظيمات بشكل كامل، ولا من إبعادها عن كامل حدودها مسافة 30 كيلومترًا، كما أنها لم تستطع منع هجماتها على قواتها ومناطق سيطرتها في شمال سوريا. إضافة إلى ذلك، لا تزال هذه التنظيمات متواجدة في مناطق شرق الفرات بفضل الدعم والتسليح والتدريب الذي تتلقاه من الولايات المتحدة في المقام الأول.
لذلك، لا يزال إخراج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من منطقة تل رفعت على وجه الخصوص يمثل هدفًا مرحليًا لتركيا في سوريا. وتسعى أنقرة جاهدة لاستكمال الجهود الرامية إلى إبعاد عناصر هذه القوات إلى عمق الأراضي السورية على طول الحدود، وإضعافها في مناطق شرق الفرات. بالإضافة إلى ذلك، تبذل تركيا جهودًا كبيرة في المجالات غير العسكرية، مثل محاولة إقناع الولايات المتحدة بالعدول عن مسار التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية.
ونتيجة لذلك، تلوح تركيا دائمًا بشن عملية عسكرية جديدة في سوريا بهدف استكمال هذه الأهداف، ولا سيما في منطقة تل رفعت. وتؤمن أنقرة بأن كلاً من الولايات المتحدة وروسيا تماطلان في تنفيذ التعهدات الخاصة بإبعاد قوات قسد عن الحدود، بهدف الضغط على تركيا، على الرغم من إبداء تضامنهما الظاهري معها عندما يتعرض جنودها للاستهداف.
لطالما كانت القوات التركية المتواجدة على الأراضي السورية هدفًا لعمليات وهجمات متفرقة. إلا أن الفترة الأخيرة شهدت تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة هذه الهجمات، بالتزامن مع زيادة عمليات النظام السوري وقصف الطائرات الروسية لأهداف داخل مناطق السيطرة التركية في شمال سوريا. ويُنظر إلى ذلك عادةً على أنه رسائل روسية قوية اللهجة موجهة إلى أنقرة. والأهم من ذلك، أن استهداف القوات التركية قد أسفر مؤخرًا عن سقوط قتلى في صفوفها بشكل متزايد. وقد حمّلت أنقرة وحدات حماية الشعب أو قوات سوريا الديمقراطية مسؤولية هذه الهجمات، متوعدة بالرد.
تمهيد أم مجرد تهديد؟
في الأيام الأخيرة، تصاعدت وتيرة التصريحات التركية التي تنبئ باقتراب تنفيذ أنقرة لتهديداتها بهذا الخصوص. وقد تزامن ذلك مع تقارير رسمية تحدثت عن قيام "المنظمة الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة بـ 122 اعتداء" على الجنود الأتراك والجيش الوطني السوري خلال الشهرين الماضيين. ففي 13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، صرح الرئيس رجب طيب أردوغان بأن "صبر بلاده قد نفد"، وذلك في أعقاب هجمات شنتها قوات سوريا الديمقراطية، وأسفرت عن مقتل شرطيين تركيين في مدينة إعزاز.
وردد وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، المعنى نفسه تقريبًا، منتقدًا كلاً من الولايات المتحدة وروسيا لـ "عدم وفائهما بتعهداتهما" التي قطعتاها بعد عملية "نبع السلام" فيما يتعلق بإبعاد مسلحي قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود التركية. وأشار إلى أنهما "تتحملان مسؤولية الاعتداءات" على القوات التركية، مؤكدًا على أن بلاده "ستقوم بكل ما يلزم" لوقفها.
لهذه التصريحات وغيرها ثلاثة احتمالات رئيسة: أولها، أن تكون أنقرة قد اتخذت قرارها بالفعل، وأن شن عملية عسكرية جديدة لها في الشمال السوري بات مسألة وقت ليس إلا. ويأتي ذلك في ظل استمرار الاعتداءات والاستهدافات بوتيرة متسارعة ومتزايدة، دون وجود جهد حقيقي من موسكو أو واشنطن لمنعها، فضلاً عن الحرج الذي تسببه هذه الاعتداءات للحكومة التركية على الصعيد الداخلي، ومنعًا لحدوث المزيد من الخسائر في المستقبل.
الاحتمال الثاني هو أن يكون الهدف من هذه التصريحات زيادة الضغط على كل من واشنطن وموسكو لحثهما على الالتزام بالتعهدات السابقة، وإلجام مسلحي قوات سوريا الديمقراطية وغيرهم، سعيًا للحيلولة دون إطلاق تركيا لعمليتها العسكرية.
أما الاحتمال الثالث، فهو أن تتحرك تركيا لرفع سقف خطابها والتأكيد على جهوزيتها الميدانية، بدافع التخوف من اتفاق محتمل بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والذي تشير بعض التقارير إلى أنه بات وشيكًا. وتخشى أنقرة من أن يكون هذا الاتفاق شاملاً ويأتي على حساب مصالحها في بعض بنوده.
ولعل اجتماع وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، في 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري عبر خدمة الفيديو "كونفرانس" مع قائد أركان الجيش وقادة القوات البرية والبحرية والجوية، يمثل رسالة واضحة في هذا الاتجاه، أي إرسال رسالة مفادها الجاهزية لتنفيذ العملية العسكرية. وقد يدفع هذا الاجتماع الأطراف الأخرى إلى إعادة حساباتها.
أما إذا ما اتجه قرار أنقرة نحو إطلاق عمليتها المتوعدة في سوريا، فمن المرجح أن تكون عملية محدودة النطاق، ومحددة الأهداف، وقصيرة المدة. وقد يكون الهدف منها إلزام موسكو وواشنطن بالتفاهمات السابقة، أو إبرام تفاهمات إضافية معهما في الاتجاه ذاته. بينما لا تبدو فرص تنفيذ عملية واسعة النطاق ومتدحرجة على غرار عمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" كبيرة في الوقت الراهن، وفقًا للمعطيات الحالية.
ذلك أن المحاذير التي تعترض طريق تنفيذ عملية من هذا النوع كثيرة، وفي مقدمتها الخلاف مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، وصعوبة التوصل إلى توافق مع أي منهما في الوقت الحالي بشأن عملية واسعة النطاق، والتكلفة الباهظة والتداعيات المتوقعة لأي عملية موسعة ومتدحرجة دون التنسيق معهما أو مع أحدهما، وكذلك افتقاد تركيا للغطاء الجوي فوق الأراضي السورية، والوضع الاقتصادي الداخلي، وحالة الاستقطاب المتزايدة مع المعارضة، وغير ذلك من العوامل.
وعليه، فإن الخيار الأول أمام أنقرة هو محاولة الوصول إلى الأهداف المرجوة دون الاضطرار إلى شن العملية العسكرية بالضرورة. وقد تكرر هذا الأمر أكثر من مرة في الحالة السورية بشكل أو بآخر بهذه الدرجة أو تلك. فإن تمكنت من تحقيق ذلك، فبها ونعمت. وإلا فإن استمرار الاعتداءات وسقوط الضحايا سيزيد من حرج الحكومة التركية، مما سيضطرها على المدى البعيد إلى اتخاذ قرارات صعبة، من قبيل إطلاق العملية العسكرية، أو الاتفاق مع موسكو و/أو واشنطن على مسارات ما، أو تغيير بعض السياسات المتعلقة بالقضية السورية. وكل هذه الخيارات معقدة ولها استحقاقاتها وكذلك تبعاتها التي ينبغي حسابها بدقة.